جنّة البيت..
(قصة قصيرة)
على رائحة الفجر , تستيقظ تلك الأمّ لتوقظ زوجها وأولادها وبنيّاتها, فيقفون بصف واحد أمام الملك الواحد, وبعد الإنتهاء من صلاة الفجر يعود كلٌ منهم إلى فراشه الدافئ ليكمل مسيرة أحلامه...
إلّا هيَ ..إعتادت وهيَّ فتاة حرة , أن لا تنهي يومها إلا بعدما تنعش الشخصيات الحالمة المنشغلة حولها, فبعد صلاتها تتوجه نحو الحديقة حيث إعتادت على مشاهدة عرض الشروق الشمسي, وحتى يطلع الشروق تكون قد أشبعت روحها ذخيرة ذاك اليوم من ذكر وآيات القرآن الكريم.
ألِفتهــا الطيور,وصادقها نسيم الصباح , فتبدأ مشهد الشروق بتأمل, فسيلفت نظرك أن بحوزتها كتب ودفتر صغير وأقلام , ماذا تراها فاعلة بهم في هذا الصباح؟
ها هي تقوم من مجلسها لتتجول في أرجاء حديقتها وطبيعتها الصامتة, فتحدثها وتستنشق عبيرها وقطرات الندى التي تملئ خديّها , فتضفي على هذه الطبيعة الحيوية .
لتقف أمام الورود وتقطف وردة حمراء ووردتين احداهما صفراء والأخرى بيضاء, ثمّ تعود إلى مجلسها والذي بصحبته تلك الأقلام ..
فتمسك قلمها و القصاصة الأولى لتكتب: أريدكِ اليوم يا طفلتي مميزة , تقذفين في قلوب الآخرين البشر والأمل وتساعدين من حولك من الطالبات , ولا تزعجي أحد . أمّكِ التي تدعو لكِ .. فكوني عند حسن الظن.
فتمسك قصاصة آخرى لتكتب: كنتِ رائعة البارحة يا بنيتي, حتى أنّكِ أبهرتني بمواقفكِ البارّة, يا ابنتي جددي نيّة يومك واجعليه بكل تفاصيله خالصاً لله و لا تنسي أن تضعي لي الخطة الأولية ليومك , وأوصيكِ اليوم بالابداع والتمييز والكلام القليل .
أمّك وصديقتك والتي تريدك فوق ما تريدين .
أمسكت القصاصة الثالثة والأخيرة , وقبلتها قبل أن تكتب عليها : زوجي الحبيب المعطاء الحنون , أنت من روحي الكثير : أهديك اليوم هذا الشعار "إن معي ربي سيهدين". حبيبي دمت بقربي ودمت لي , ولا تنسى أن تتصل اليوم بوالدتك , واليوم لك مني مفاجأة .
تذكر دوما.. أنتَ من روحي الكثيــر.. وأكثر
زوجتك وطفلتك وفتاتك وحدك ... وبالطبع حبيبتك .
جمعت القُصاصات والورود وبقايا إبتسامتها, لتقوم بالمهمة التالية :دخلت على أوّل غرفة فوضعت تحت الوسادة القصاصة , وعلى رف السرير وضعت الوردة الحمراء.
ثم انتقلت إلى ابنتها الكبرى ووضعت تحت وسادتها قصاصة وكذلك لابنتها الصغرى , ووضعت للكبرى الوردة الصفراء وللصغرى البيضاء.
وبعدما أنهت مهمتها الصباحية , ذهبت لتحضّر وجبة الفطور الشهي , وهي تدندن : الخير الباقي فينا يكفينا بل يحيينا مادام الروح طموحة و القلب يفيض يقينا .. الفجر الباسم قادم..
أنغام صوتها ملأت المكان , وكأنها تعمدت أن ترفع صوتها لتوقظ أحبتها بطريقتها غير المباشرة وبلطفها المعهود .. وربما لأنها اشتاقت لطلتهم عليها , حاولت أن توقظهم أبكر من المعتاد , لطالما أحبت نتائج قُصاصاتها في نفوسهم .. فكانت تستمع لحديثهم بصمت وتواضع .. وكأنها لا تكترث لمجاملاتهم , ولكن قلبها يرقص فرحاً لفرحهم.
- صوت منبه الطفلة الصغيرة المدللة ,
حيث استيقظت على صوت منبه الساعة, إلتفتت لترى لون وردتها لهذا اليوم , وحين لمحت اللون الأبيض.. قالت بنفسها .. وردتي بيضاء لهذا اليوم , لا بُد أن في القصاصة اليوم مهمة جديدة , فكلّما وضعت لي أمي وردةً بيضاء جاء في كلامها معاني المحبة والرفق والروح السامية .. جعلت يدها تنسدل تحت الوسادة وفتحت الورقة .. وقرأت ما فيها , ثمّ علقتها إلى جانب مجموعة القصاصات الملصقة على الجدار , فهذه رغد كانت تحتفظ بكلام أمها في زاوية خاصة بغرفتها , وأطلقت على هذه الزاوية اسم "جنّة الدنيا!".
ثمّ انطلقت المدللة رغد إلى غرفة أختها الكبرى , فألقت نظرة متفحصة للغرفة حتى وجدت الوردة الصفراء ..
بدأت بالصراخ سارة سارة استيقظي أيتها الصفراء , أقصد استيقظي يا أختي الشقراء , أقصد ..حتى ودون سابق إنذار وجدت الوسادة ملتصقة على وجهها لتسكت ضجيجها.
كانت سارة مستيقظة وبين يديها القصاصة وضجيج رغد جعلها تفقد تركيزها بالقراءة, فسارعت لإسكات الضجيج لتبحر ببريق كلمات حبيبتها الرائعة .
وهي تنظر لرغد .. قالت :أحببت اللون الأصفر فهو رمز الثقة لدّي , وكلّما تهديني أمي وردة صفراء يكون يومي مميزاً وبصمتي به الأكثر تأثيرا.!
تسارعت خطوات الفتيات نحو أمهما في المطبخ..!
- وفي غرفة سيّدا ذاك البيت
استيقظ الأب مبتسماً, يبدو أنه كان في حلم جميل , أو أنه ينتظر لحظات الاستيقاظ لينظر حوله ويرى ما لون وردته اليوم ...
وحين وقعت عيناه على الوردة الحمراء .. استنشق عبيرها وابتسم ابتسامة مشرقة تكشف عن سر وراء هذا اللون ..وقال أنتِ لي اليوم ..!
وكأنها ألوان اتفق الجميع على معناها وأصبحت متداولة بينهم ..!التقط القصاصة وقبلها قبل أن يفتحها .. ثمّ بدأ يقرأ كلماتها ..
إلى أن أقبلت عليه تظنه ما زال نائماً , فألقت عليه تحية الصباح .. سارع وسألها قبل أن يرد التحية ما هيَّ المفاجأة ؟؟؟!
فتتركه وهي تقول هيّا أسرع الفطور بالإنتظار..! فيقول مبتسماً .. كعادتها لا تجيب....!
إنطلق الجميع إلى مشاغله خارج المنزل , وبقيت الزوجة المتألقة تتجول في المنزل بين تدبير وترتيب وبعض اللمسات الفنية , حتى جاءها اتصال هاتفي ..
ليبث لها خبر مفزع , بأن والدها في المستشفى .. وهيّ البنية البارة والذكية , يحبها والدها وتحبه , وبينهما صداقة قائمة لا يزلزلها زلزال.
فسارعت لارتدارء ملابسها وانطلقت إلى المستشفى بعد أن أخبرت زوجها .
سمّعت أمها تنحب , وتقول قارب عمره من الـ 66 سنة وهو في تعب شديد , يا رب الطف..!
جاء الزوج للمستشفى ليطمئن على عمّه , فقرأ له بعض القرآن , نادى زوجته وأوصاها ببعض التعليمات , وطلب منها أن تلازم أباها الليلة بالمستشفى وتبقى بجانبه , فهو سيسعد جداً ان استيقظ ووجد ابنته بجانبه, فنطقت بصوت مائل متعب:
أوصيك أن تتولى شؤون رغد وسارة .
أجابها وهو يربت على كتفيها : لا يهمك كوني بخير واطمئني..
وتولى الزوج المهمة لذلك اليوم...
وفي اليوم التالي كان ينتظر نسيم الفجر يوقظه , ثمّ تذكر أنها ليست بالمنزل ولم تنم بجانبه هذه الليلة ..!
قفز بسرعة ليوقظ الفتاتين لأداء الصلاة قبل أن تفوتهما ..
شعرت هذه الأسرة أن البيت فقد حيويته هذا الصباح ,افتقدوا الأنغام, والورود , والكلمات المشجعة , وذاك النفس الدافئ الطاهر, وحتى الطاولة التي يجتمعون عليها، كانت كسماء الليل تنتظر القمر ليزينها .
جلس الجميع حول طاولة الفطور .. ينظرون لبعضهم ووجوهم شاحبة..!
حينها، أجمع الثلاثة على أن هذه الأم هي جنّة البيت , والبيت من غيرها جحيم لا يطاق.
واتفقوا فيما بينهم كما أنها تسعدهم كل صباح، أن يُسعدوها كل مساء..!
فكتبوا لها ثلاث قصاصات ..:
رغد :أنتِ جنّة الدنيا يا أمي . وأنتِ قدوتي.
سارة :أنت الروح التي تنعش كياني . وأنتِ القمّة.
الزوج: أنتِ جنة البيت وحورية الدنيا وأنتِ إبتسامتي.
ووضعوهم تحت وسادتها .. بعدما ملأ الزوج سريرها بالورد الأحمر ..!
انتهت.
شكراً لصديقتي ميساء على التدقيق اللغوي والصور المشرقة